تحولات استراتيجية كبرى- ترامب، بوتين، وأوروبا في عالم متغير

المؤلف: حسن أوريد09.14.2025
تحولات استراتيجية كبرى- ترامب، بوتين، وأوروبا في عالم متغير

اتفاقية "ميونخ" تمثل معاهدة مشؤومة، أبرمتها بريطانيا وفرنسا مع أدولف هتلر في عام 1938 بعد استيلائه على تشيكوسلوفاكيا. بموجب هذا الاتفاق، أقرت الدولتان بالأمر الواقع، ظنًا منهما أنهما تتجنبان بذلك اندلاع حرب شاملة. ومع ذلك، أثبتت هذه المحاولة أنها قصيرة النظر وغير فعالة.

ظلت "روح ميونخ" بمثابة شبح يطارد الوجدان الغربي، فهي ترمز إلى الانهزامية التي لم تؤدِ إلى شيء ملموس، بل إنها لم تنجح في منع المواجهة المحتومة. هذا الإرث التاريخي يلقي بظلاله على القرارات المعاصرة، ويثير التساؤلات حول استراتيجيات التعامل مع القوى الصاعدة.

هل تمثل مواءمة الرئيس ترامب مع الرئيس بوتين "ميونخ" جديدة؟ بعبارة أخرى، هل سيتم التضحية بأوكرانيا في سبيل تجنب حرب عالمية ثالثة مدمرة؟ هذا الاحتمال يثير قلقًا عميقًا في الأوساط السياسية والعسكرية.

في لقائه المثير للجدل مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، لوّح الرئيس ترامب بخطر اندلاع حرب عالمية ثالثة، محملًا إياه مسؤولية ذلك إذا أصر على رفض "تسوية سلمية" مجحفة. هذا التهديد الضمني يمثل تحولًا حادًا في السياسة الخارجية الأمريكية.

على الرغم من أن التاريخ لا يعيد نفسه بنفس التفاصيل، فمن الواضح أن العالم يشهد تحولًا استراتيجيًا غير مسبوق خلال فترة قصيرة. بدأت هذه التحولات بعد اللقاء المخيب للآمال بين الرئيس ترامب والرئيس زيلينسكي في البيت الأبيض (28 فبراير/شباط 2025)، وتلاها خطاب الاتحاد الذي ألقاه الرئيس الأمريكي أمام الكونغرس (4 مارس/آذار)، واجتماع رؤساء الدول الأوروبية في بروكسل (6 مارس/آذار) لبحث إنشاء دفاع أوروبي مشترك خارج نطاق الحماية الأمريكية. هذه الأحداث المتسارعة تشير إلى إعادة هيكلة جذرية للنظام العالمي.

وقبل هذه التطورات، انعقد الاجتماع الدوري حول قضايا الأمن في ميونخ في شهر فبراير/شباط. خلال هذا الاجتماع، صرح نائب الرئيس الأمريكي فانس بأن التهديد الذي يواجه أوروبا ليس من الصين أو روسيا، بل من خطر داخلي يتمثل في التخلي عن القيم الغربية الأساسية، مثل الديمقراطية وحرية التعبير. هذه التصريحات تعكس انقسامًا عميقًا داخل الغرب نفسه.

نحن الآن في بداية مسار يؤدي إلى تحولات جذرية تتجاوز التحالفات الظرفية والمواقع التكتيكية. هذا التغير الاستراتيجي يمس القوى الكبرى الفاعلة في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين وروسيا وأوروبا، وسيكون له تداعيات واسعة النطاق على النظام العالمي برمته.

هناك دول تراقب هذه التطورات بقلق بالغ، مثل كوريا الجنوبية واليابان وتايوان، التي تخشى تخلي الولايات المتحدة عنها. في المقابل، هناك دول أخرى تدرس التطورات الجارية بهدف إعادة ترتيب أوراقها وتحديد مواقعها الجديدة في النظام العالمي المتغير.

أحد أبرز التغييرات يتعلق بالغرب نفسه، أو بتحديد مفهومه على نحو أكثر دقة. كان الغرب يُنظر إليه على أنه وحدة متماسكة، تجمع بين مرجعية قيمية مشتركة وحيز جغرافي يضم الولايات المتحدة وأوروبا، بالإضافة إلى أستراليا ونيوزيلندا واليابان وإسرائيل. هذا التصور التقليدي للغرب بدأ في التلاشي.

يُعرّف بعض الاستراتيجيين الغرب بأنه قوة عسكرية تتمثل في حلف الناتو، وقوة اقتصادية ومالية تتمثل في مجموعة السبع الكبار، وقوة استخباراتية تُعرف باسم "العيون الخمس" (الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا)، وكلها تدور في فلك الولايات المتحدة. هذا التعريف التقليدي أصبح قاصرًا عن استيعاب التحولات الجارية.

التحولات الجارية تقوض هذه التعريفات التقليدية للغرب، مما يجعل من الصعب الحفاظ على مصطلح "ائتلاف الغرب" الذي كانت تستخدمه روسيا في معرض انتقاداتها. هذا التفكك الداخلي يشير إلى نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة.

يشهد الغرب تمايزًا داخليًا بين تيار غربي تقليدي محافظ، تدعمه الحركات الشعبوية اليمينية التي تركز بشكل كبير على الهوية العرقية والدينية (الإنسان الأبيض والمسيحي)، وتيار غربي ليبرالي أكثر انفتاحًا وتسامحًا. هذا الانقسام يهدد وحدة الغرب وتماسكه.

تتشارك الأحزاب الشعبوية اليمينية قيمًا مشتركة على المستوى الداخلي، تتمحور حول ما يسمى باللاليبرالية الديمقراطية. هذه الأحزاب تستمد شرعيتها من الشعب وتعتبر نفسها ممثلة للديمقراطية الحقيقية، وترفض هيمنة النخب وبنيات "الدولة العميقة"، كما ترفض الليبرالية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. هذا التوجه يتغلغل في الولايات المتحدة وأوروبا، ويتشكل في صورة أممية شعبوية تستند إلى توجهات موحدة على مستوى السياسة الخارجية.

علاوة على ذلك، لا تتعارض الشعبوية اليمينية الغربية مع الشعبوية اليمينية غير الغربية، كما في روسيا أو الهند. هذا التقارب بين اليمين الشعبوي في مختلف أنحاء العالم يشكل تحديًا للنظام العالمي الليبرالي القائم.

التحول الجيوسياسي الأكبر يتعلق بالولايات المتحدة، وقد رسم الرئيس الأمريكي ملامحه في خطاب التنصيب (21 يناير/كانون الثاني) وخطاب الأمة الموجه إلى الكونغرس (4 مارس/آذار). هذه الخطابات كشفت عن رؤية جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية.

يتجاهل الرئيس ترامب القواعد المتعارف عليها في العلاقات الدولية، مثل التعاون واحترام القانون الدولي والدبلوماسية متعددة الأطراف والقيم، ويجعل الأمن القومي الأمريكي ورسم مناطق النفوذ والإجراءات الحمائية (اقتصاديًا واجتماعيًا) المحددات الرئيسية للسياسة الخارجية الأمريكية، حتى لو أدى ذلك إلى حروب تجارية والحد من الهجرة والسيطرة على مناطق من العالم باسم الأمن القومي، كما هو الحال مع غرينلاند وقناة بنما. هذه السياسة الانعزالية والعدوانية تثير قلقًا عميقًا في جميع أنحاء العالم.

لا يفتقر ترامب إلى المؤيدين داخل الولايات المتحدة وخارجها. تحذو جميع الاتجاهات الشعبوية اليمينية حذوه، بدءًا من جورجيا ميلوني في إيطاليا وفيكتور أوربان في هنغاريا (اللذين يشغلان مناصب رسمية) وصولًا إلى الاتجاهات اليمينية المؤثرة، مثل التجمع الوطني في فرنسا أو البديل من أجل ألمانيا في ألمانيا أو فوكس في إسبانيا. تتفق رؤى هذه الاتجاهات مع تعامل ترامب مع الملف الأوكراني. هذا الدعم الشعبي والسياسي يعزز من قدرة ترامب على تنفيذ أجندته.

التحول الاستراتيجي الثاني يتعلق بروسيا، التي كانت تطمح في أن تصبح جزءًا من الغرب الكبير، كما عبرت مادلين أولبرايت عن انطباعها حول أول لقاء لها ببوتين، حيث أكد لها رغبته في أن تكون روسيا جزءًا من الغرب الكبير. هذا الطموح لم يتحقق، وبدأت روسيا في البحث عن دور ومكانة جديدين في النظام العالمي.

تلتقي توجهات ترامب وبوتين فيما يخص دور الدين والأسرة والتقاليد. وبتعبير آخر، يرى ترامب أن التناقض الأساسي يكمن مع أوروبا الغربية وليس مع روسيا. هذا التقارب الأيديولوجي والسياسي بين الولايات المتحدة وروسيا يغير موازين القوى في العالم.

أما الصين، فلم تتردد في الرد على خطاب الرئيس الأمريكي للأمة، مؤكدة استعدادها للحرب بأي شكل من الأشكال. تدرك الصين أن التحركات التي يقوم بها الرئيس الأمريكي، سواء من خلال التقارب مع روسيا أو وضع اليد على قناة بنما، تهدف إلى احتواء الصين، بالإضافة إلى الحرب التجارية التي يشنها عليها. هذه المواجهة المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين تهدد بتقسيم العالم إلى معسكرين متنافسين.

التقارب الأمريكي الروسي يحول التحدي إلى الساحة الأوروبية، التي اعتمدت على المظلة الأمريكية، وتدرك الآن أنها لا تستطيع الاستمرار في ذلك. هذا الواقع الجديد يدفع أوروبا إلى البحث عن بدائل لحماية أمنها ومصالحها.

بيد أن اللعبة تبدو معقدة بالنسبة لأوروبا، لأنها تلعب على جبهتين: على المدى القصير، تسعى أوروبا إلى تعويض وقف الدعم الأمريكي لأوكرانيا من حيث الإمدادات العسكرية والمعلومات الاستخباراتية، وهو ما يبدو صعبًا للغاية. وعلى المدى الطويل، تتوخى أوروبا إرساء منظومة أمنية أوروبية موحدة خارج المظلة الأمريكية، من خلال سياسات عسكرية جديدة، عبر رفع الإنفاق العسكري وتطوير الصناعة الحربية والردع وتعبئة المواطنين وإعادة الخدمة العسكرية والتنسيق بين قيادة الجيوش وحتى في صنع السلاح واستخدامه . تحقيق هذه الأهداف الطموحة يتطلب وحدة وتصميمًا أوروبيين.

وليس من المؤكد أن تتوحد كلمة أوروبا في وضع سياسة دفاعية موحدة. فإيطاليا لا تنظر بارتياح إلى قيادة عسكرية أو سياسية تتزعمها فرنسا، وتنظر بدلًا من ذلك في اتجاه الولايات المتحدة. هذا الانقسام الداخلي يضعف من قدرة أوروبا على لعب دور مستقل في النظام العالمي.

من البديهي أن التغييرات الدراماتيكية الكبرى سوف تنعكس على العالم. أو بتعبير أدق، تراقب الأطراف الأخرى، ومنها ما يسمى بالجنوب الكبير، التحولات الكبرى لترسم توجهاتها المستقبلية. هذه الدول تسعى إلى الاستفادة من الفرص الجديدة التي تتيحها التحولات الجارية وتجنب المخاطر المحتملة.

ماذا عن محور الصين روسيا، أو الصداقة الدائمة بينهما؟ أليست غاية تحركات ترامب تفكيك هذا التحالف؟ هل يستطيع ترامب إعادة ما قام به نيكسون، بتفكيك الوحدة الأيديولوجية بين الصين والاتحاد السوفياتي؟ أليس هذا هو الرهان الأكبر لكل هذه التحولات؟ هذا السؤال يظل مفتوحًا، والإجابة عليه ستشكل مستقبل النظام العالمي.

ما يجري اليوم هو استمرار لفصل بدأ في الشرق الأوسط، وفي الحرب على غزة ولبنان. هل كانت الاختراقات التي حققتها إسرائيل على حزب الله في سوريا ولبنان لتحدث لولا دعم روسيا؟ ألم يكن ذلك دافعًا مسبقًا من قِبل روسيا لجني مكاسب في ملف أوكرانيا؟ هذه التطورات المتشابكة تكشف عن صلة وثيقة بين الأحداث الإقليمية والدولية.

لا ينبغي النظر إلى التوجهات الخارجية التي تتبناها الولايات المتحدة على أنها قرارات مزاجية، بل على أنها رؤى راسخة لدى توجهات عميقة وبنيات مؤثرة، يتبناها الرئيس الأمريكي ويعبر عنها بأسلوبه الخاص. هذه الرؤى تعكس تحولًا في العقيدة الاستراتيجية الأمريكية.

من غير المحتمل أن يحدث تراجع في التوجهات التي تتبناها الإدارة الأمريكية الحالية. لقد تغيرت قواعد اللعبة، ولن تعود عقارب التاريخ إلى الوراء. كل تحوُّل يخلق رابحين وخاسرين، وأطرافًا تحسن استغلال الفرص المتاحة. المستقبل سيكون من نصيب من يستطيع التكيف مع الواقع الجديد والتغلب على التحديات المطروحة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة